تكلم ولم يقل شيئا، فاهتزت القاعة بالتصفيق. تكلم ثانية، ونبرة الصوت دوت في تلك القاعة الصامتة، كان الصمت يشبه صمت القبور. أناس مختلفون، قابعون ينظرون في دهشة. كلما تعالى التصفيق، كلما زادته حيوية ونشاطا. رفع يده إلى السماء ثم وضعها على صدره وهو يتحدث عن الماضي وينتقل إلى الحاضر ويثني عن المستقبل. شحبت الوجوه، وهناك من النساء من أدرفت دموعا . ربما كان للخطاب تأثيرا على الجموع. بدأ بتحريك اليد ورسم ابتسامة عريضة على وجهه، ينظر تارة إلى اليسار وأخرى إلى اليمين وكأن ما يقول ينفصل بين ذات اليسار وذات اليمين. اهتزت القاعة بالضحك ومرة أخرى بالتصفيق. سكت هنيهة ليرتب الأفكار . بدت عبقرية الكلمات تصطف لترسم نصا فضفاضا تتلوه حركات اليد والوجه والأكتاف. سمعت زغرودة من وسط الجمع، كانت لامرأة في ربيعها الرابع. دهش من تجاوب هذه الأجساد معه فتفنن في الخطاب. تذكر حركات هيتلر عندما كان يخاطب الشعب الآري بنظراته وحركاته وسكناته التي كانت في الغالب تتبع سمفونيات فاكنر. تحدث عن كل شيء ولم يقل أي شيء في كل شيء سوى عبارات مزدحمة جميلة. أخذته النشوة بالإنتصار، فوقف لإتمام كلامه، وقفت القاعة وهي جامدة كصخور لم تتآكل. العيون تبصر والعقول مذهولة تنتظر النهاية. دخل إلى القاعة رجل يرتدي زيا رسميا، انحنى عليه وهمس في أذنه. رد عليه بعنف:" تبا لكم ولأخطائكم". خرج مهرولا والأيادي مرفوعة تودعه. كان خطأ تقنيا. كانت القاعة المبرمجة للخطاب تشبه إلى حد كبير تلك التي كان يصول ويجول فيها بعباراته. حيث كانت مخصصة للمصابين بالصمم..